هذا الذي نريد أن نحدده، فالهدف من هذا هو إثبات أن الدين قول وعمل، وأنه واقع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن تربى على دعوته من الصحابة الكرام، إنما كان الدين عندهم قولاً وعملاً حقيقةً وواقعاً، وليس ادعاءً، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -على الإطلاق- رجل يدعي أنه من المسلمين، أو يحسبه المسلمون منهم، ولا يقوم بصلاة ولا صيام ولا صدقة ولا جهاد فهذا الذي وقع وانتشر في الأمة في العصور المتأخرة لم يكن موجوداً. بل إن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أخبروا عن أنفسهم -كما في حديث
جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه الذي أخرجه
ابن ماجه - فقالوا: (
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن ). فالصحابة رضي الله تعالى عنهم تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كلامه، ومن عمله، ومن الاقتداء به، ومن الجهاد معه الإيمان قبل القرآن، قال: (
فازددنا به إيمانا )، أي: فازددنا بالقرآن لما تعلمناه إيماناً.وهذا المنهج التربوي مخالف تماماً لما صار عليه المسلمون في العصور الأخيرة، وهو أن الناس يحفظون القرآن وهم لا يفقهون من عمل الدين شيئاً، ويحفظه المرء منهم وهو لا يؤدي من الفرائض شيئاً والعياذ بالله، على عكس ذلك كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الرجل حين يسلم يرى التقوى، ويرى الصلاح، ويرى الخير في النبي صلى الله عليه وسلم ومن حوله، فيتأسى بهم ويخشع كخشوعهم، ويعبد كعبادتهم، ويعرف الله، ويعرف ما أعد الله للمتقين من النعيم، وما أعد للفجار من الجحيم، ويعرف أحكام الحلال والحرام بحسبه، فكان ذلك ما يتعلمونه، ولهذا يقول الله تعالى: ((
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ))[التوبة:122]، فكانوا ينفرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتفقهوا في الدين، وإن جلسوا في المسجد جلسوا ليتفقهوا في الدين، فكانت وسيلة التربية والتعليم هي العمل نفسه، فالإنسان يصلي ثم يتفقه في أحكام الصلاة، ويعرف عظمة القرآن وأهميته ثم يبدأ فيحفظ ويقرأ القرآن، وهذا نموذج عظيم جداً وفريد في التربية، فهذه البيئة التي يكون فيها الإنسان تفتح قلبه وتنير بصيرته، ثم يأتي العلم الذي هو (قال الله) و(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأحكام الحلال والحرام فيزداد إيماناً كما قال
جندب رضي الله تعالى عنه. ولهذا رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تربية عظيمة جداً، حتى عرفوا بها الإيمان وعرفوا بها الدين، فلم يحتاجوا إلى أن يسألوا عن معنى الإيمان في لغة العرب، وعن معنى الإيمان اصطلاحاً؛ لأنهم كان يعيشون في الإيمان كل يوم، ويتعبدون به كل يوم، ويزدادون فيه ترقياً كل يوم، فإذا أنزلت آية، أو وقعت وقعة من وقائع السيرة زادتهم إيماناً، وإذا رأوا منه صلى الله عليه وسلم حكمةً قولية أو عمليةً ازدادوا بها يقيناً وإيماناً، فهذا الإيمان بين أيديهم واضح جلي.